فصل: (بَابٌ مِنْ الْإِقْرَارِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْإِقْرَارِ بِالْعَارِيَّةِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّ هَذَا الثَّوْبَ أَوْ هَذِهِ الدَّارَ عِنْدَهُ عَارِيَّةٌ بِمِلْكِ فُلَانٍ أَوْ بِمِيرَاثِهِ أَوْ بِحَقِّ فُلَانٍ هَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ)؛ لِأَنَّ الْبَاءَ فِي الْأَصْلِ لِلْإِلْصَاقِ، فَقَدْ جَعَلَ الْمُقَرَّ بِهِ مُلْصَقًا بِمِلْكِ فُلَانٍ وَمِيرَاثِهِ وَحَقِّهِ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ هَذَا الْإِلْصَاقُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَهُ وَكَالَةٌ، وَقَدْ تَكُونُ الْبَاءُ صِلَةً كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ}، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَعْنَى الصِّلَةِ هُنَا كَانَ إقْرَارًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ مِلْكُ فُلَانٍ أَوْ مِيرَاثُ فُلَانٍ أَوْ حَقُّ فُلَانٍ، وَقَدْ تَكُونُ الْبَاءُ لِلتَّبْعِيضِ أَيْضًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} اقْتَضَى الْمَسْحَ بِبَعْضِ الرَّأْسِ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى هَذَا كَانَ إقْرَارًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمُقَرَّ بِهِ بَعْضَ مِلْكِهِ وَمِيرَاثِهِ وَحَقِّهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَارِيَّةً عِنْدِي مِنْ مِلْكِ فُلَانٍ أَوْ مِنْ مِيرَاثِهِ أَوْ مِنْ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ مِنْ فِي الْأَصْلِ لِلتَّبْعِيضِ فَذَلِكَ إقْرَارٌ يَكُونُ الْمُقَرُّ بِهِ بَعْضَ مِلْكِهِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ صِلَةً كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} وقَوْله تَعَالَى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ}، وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الصِّلَةِ فَهُوَ إقْرَارٌ أَيْضًا، وَقَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الْبَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} يَعْنِي بِأَمْرِ اللَّهِ فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ لِلتَّمْيِيزِ كَمَا يُقَالُ سَيْفٌ مِنْ حَدِيدٍ وَخَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ إقْرَارًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مَيَّزَ الْمُقَرَّ بِهِ عَنْ سَائِرِ مَا فِي يَدِهِ بِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ لِلْمُقِرِّ.
وَلَوْ قَالَ عَارِيَّةٌ عِنْدِي لِمِلْكِ فُلَانٍ أَوْ لِمِيرَاثِهِ كَانَ إقْرَارًا أَيْضًا، وَلَوْ قَالَ: وَالثَّوْبُ وَالدَّابَّةُ عَارِيَّةٌ عِنْدِي لِحَقِّ فُلَانٍ، لَا يَكُونُ إقْرَارًا لِأَنَّ اللَّامَ قَدْ تَكُونُ لِلتَّأْكِيدِ، وَقَدْ تَكُونُ لِلْوَقْتِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وقَوْله تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}.
وَقَدْ تَكُونُ لِلتَّمْلِيكِ، وَقَدْ تَكُونُ لِلتَّعْلِيلِ فَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ حُمِلَ قَوْلُهُ لِمِلْكِ فُلَانٍ أَوْ لِمِيرَاثِ فُلَانٍ إقْرَارًا مُؤَكَّدًا، وَأَمَّا إذَا قَالَ لِحَقِّ فُلَانٍ فَنَقُولُ: اللَّامُ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الْمُجَازَاةِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ أَكْرَمْتُكَ لِتُكْرِمَنِي وَزُرْتُكَ لِتَزُورَنِي، وَقَدْ تَكُونُ لِبَيَانِ الْحُرْمَةِ كَالرَّجُلِ يُرِيدُ أَنْ يَضْرِبَ عَبْدَهُ فَنَهَاهُ الْغَيْرُ فَيَقُولُ تَرَكْتُهُ لَكَ أَيْ لِحُرْمَتِكَ وَشَفَاعَتِكَ فَهُنَا قَوْلُهُ لِحَقِّ فُلَانٍ يَحْتَمِلُ مَعْنَى الشَّفَاعَةِ وَالْحُرْمَةِ يَعْنِي لِأَجْلِ شَفَاعَتِهِ وَحُرْمَتِهِ إعَادَةُ صَاحِبِهِ، فَهُنَا قَوْلُهُ مِنِّي فَلَمَّا احْتَمَلَ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَجْعَلْ إقْرَارًا لَهُ بِالشَّكِّ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لِمِلْكِ فُلَانٍ أَوْ لِمِيرَاثِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْحُرْمَةِ وَالشَّفَاعَةِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: هَذَا الْأَلْفُ مُضَارَبَةً عِنْدِي لِحَقِّ فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِمَعْنَى الْحُرْمَةِ وَالشَّفَاعَةِ أَيْ إنَّمَا رَفَعَهَا صَاحِبُهَا إلَى مُضَارَبَةٍ لِأَجْلِ شَفَاعَةِ فُلَانٍ وَحُرْمَتِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِالْقَرْضِ لِحَقِّ فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ إقْرَارًا؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ لَا تُجْزِئُ فِيهِ الشَّفَاعَةُ عَادَةً إنَّمَا تُجْزِئُ فِيهِ الْكَفَالَاتُ، فَإِذَنْ انْتَفَى مَعْنَى الشَّفَاعَةِ فِي الْقَرْضِ فَبَقِيَ إقْرَارًا لِمِلْكِهِ بِخِلَافِ الْعَوَارِيِّ وَالْمُضَارَبَةِ فَإِنَّهُ تُجَزِّئُ فِيهِمَا الشَّفَاعَاتُ عَادَةً.
وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّرَاهِمُ عِنْدِي عَارِيَّةٌ لِحَقِّ فُلَانٍ فَهَذَا إقْرَارٌ لَهُ بِهَا لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ فِي الدَّرَاهِمِ قَرْضٌ فَكَانَ هَذَا وَالْإِقْرَارُ بِالْقَرْضِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ.
وَلَوْ قَالَ: أَخَذْتُ هَذَا الثَّوْبَ مِنْكَ عَارِيَّةً، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: بَلْ أَخَذْتُهُ مِنِّي بَيْعًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآخِذِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ حَصَلَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْآخِذِ بِاعْتِبَارِ عَقْدِ الضَّمَانِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لَهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ.
وَهَذَا إذَا لَمْ يَلْبَسْهُ، فَإِنْ لَبِسَهُ فَهَلَكَ كَانَ ضَامِنًا لَهُ؛ لِأَنَّ لُبْسَ ثَوْبِ الْغَيْرِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى اللَّابِسِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنٍ مِنْ صَاحِبِهِ، وَاللَّابِسُ وَصَاحِبُهُ مُنْكِرَانِ، فَإِنْ (قِيلَ) لَا كَذَلِكَ فَإِنَّ بَيْعَ الثَّوْبِ مِنْ الْغَيْرِ تَسْلِيطٌ مِنْهُ عَلَى لُبْسِهِ فَلَمَّا أَقَرَّ صَاحِبُهُ بِالْبَيْعِ، فَقَدْ ثَبَتَ الْإِذْنُ فِي اللُّبْسِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ اللَّابِسُ كَمَا قُلْنَا فِي الْآخِذِ (قُلْنَا) التَّسْلِيطُ بِإِيجَابِ الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ التَّمْلِيكُ لِيَلْبَسَ مِلْكَ نَفْسِهِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لَهُ لِإِنْكَارِهِ لَمْ يَثْبُتْ تَسْلِيطُ صَاحِبِهِ إيَّاهُ عَلَى لُبْسِهِ، وَهُوَ فِي اللُّبْسِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ مُوجِبٌ الضَّمَانَ عَلَيْهِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِخِلَافِ الْآخِذِ، فَقَدْ يَكُونُ فِي الْآخِذِ عَامِلًا لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ كَالْمُودِعِ فِي أَخْذِ الْوَدِيعَةِ لِيَحْفَظَهَا فَلَا يَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ بِالْأَخْذِ إذَا لَمْ يُنْكِرْ صَاحِبُهُ أَصْلَ الْإِذْنِ الْإِذْنِ وَلَوْ قَالَ: أَقْرَضَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: لَا بَلْ غَصَبَنِي فَالْمُقِرُّ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى كَوْنِ الْمَالِ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي سَبَبِهِ وَالْأَسْبَابُ مَطْلُوبَةٌ لِأَحْكَامِهَا لَا لِأَعْيَانِهَا فَعِنْدَ التَّصَادُقِ عَلَى الْحُكْمِ لَا يُنْظَرُ إلَى اخْتِلَافِ السَّبَبِ، وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَ الْمُقَرِّ لَهُ لَا بَلْ غَصَبَنِي لَا يَكُونُ رَدًّا لِأَصْلِ الْوَاجِبِ إنَّمَا يَكُونُ رَدًّا لِلسَّبَبِ فَيَبْقَى إقْرَارُهُ مُعْتَبَرًا فِي وُجُوبِ الْمَالِ لِتَصْدِيقِ الْمُقَرِّ لَهُ إيَّاهُ فِي أَنَّهُ وَاجِبٌ.
وَإِنْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ بِعَيْنِهَا فَلِلْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى مِلْكِ الْعَيْنِ لِلْمُقَرِّ لَهُ فَبَعْدَ ذَلِكَ الْمُقِرُّ بِدَعْوَى الْقَرْضِ يَدَّعِي مِلْكَهَا عَلَيْهِ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ.
وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّرَاهِمُ فِي يَدِي عَارِيَّةٌ لِفُلَانٍ أَوْ مِنْ فُلَانٍ أَيْ أَوْ مِنْ قِبَلِ فُلَانٍ فَهَذَا إقْرَارٌ لَهُ بِهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَارِيَّةَ فِي الدَّرَاهِمِ قَرْضٌ فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا لَا يَتَأَتَّى فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا فَكَانَتْ الْإِعَارَةُ فِيهَا تَسْلِيطًا بِشَرْطِ ضَمَانِ الرَّدِّ، وَذَلِكَ حُكْمُ الْقَرْضِ.
وَإِنْ قَالَ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ عَارِيَّةٌ بِيَدِي عَلَى يَدَيْ فُلَانٍ فَلَيْسَ هَذَا بِإِقْرَارٍ، وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ إقْرَارٌ.
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَى يَدَيْ فُلَانٍ مَعْنَاهُ أَرْسَلَهَا صَاحِبُهَا إلَيَّ عَارِيَّةً عَلَى يَدَيْ فُلَانٍ فَإِنَّمَا إقْرَارُهُ فُلَانًا كَانَ رَسُولًا فِيهَا فَلَا يَصِيرُ مُقِرًّا بِالْمِلْكِ لَهُ.
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّ وُصُولَهَا إلَى يَدِهِ كَانَ مِنْ يَدِ فُلَانٍ، وَالْمُتَعَيِّنُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ أَخَذَ مِنْهُ كَمَا يَلْزَمُ الرَّدُّ الْمُكَارِيَ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ فَوَجَبَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ هَذَا الْإِقْرَارِ رَدُّهَا عَلَى فُلَانٍ فَلِهَذَا كَانَ مِنْهُ إقْرَارًا لِفُلَانٍ.

.بَابُ الْإِقْرَارِ بِالدَّرَاهِمِ عَدَدًا:

(قَالَ) رَحِمَهُ اللَّهُ: رَجُلٌ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَدَدًا، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ هِيَ وَزْنُ خَمْسَةٍ أَوْ سِتَّةٍ، وَكَانَ الْإِقْرَارُ مِنْهُ بِالْكُوفَةِ فَعَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَزْنُ سَبْعَةٍ وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى النُّقْصَانِ إلَّا إنْ بَيَّنَ الْوَزْنَ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ لِأَنَّ ذِكْرَ الدَّرَاهِمِ عِبَارَةٌ عَنْ ذِكْرِ الْوَزْنِ فَإِنَّهُ لَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ الْوَزْنِ فِيهِ إلَّا بِذِكْرِ الْعَدَدِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَمُطْلَقُ ذِكْرِ الْوَزْنِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ إقْرَارُهُ بِالْكُوفَةِ فَالْمُتَعَارَفُ بِهَا فِي الدَّرَاهِمِ سَبْعَةٌ وَكَمَا يَنْصَرِفُ مُطْلَقُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِالدَّرَاهِمِ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ مُطْلَقُ الْإِقْرَارِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ فَقَوْلُهُ وَزْنُ خَمْسَةٍ بَيَانٌ مُعْتَبَرٌ لِمَا اقْتَضَاهُ مُطْلَقُ إقْرَارِهِ، فَقَدْ بَيَّنَّا بَيَانَهُ، وَالتَّعْبِيرُ يَصِحُّ مَوْصُولًا بِالْكَلَامِ وَلَا يَصِحُّ مَفْصُولًا وَمَعْنَى قَوْلِنَا وَزْنُ سَبْعَةٍ أَنَّ كُلَّ عَشَرَةٍ مِنْهَا وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ وَكُلُّ دِرْهَمٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا، وَإِذَا كَانَ الدِّرْهَمُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا تُبْنَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ الزَّكَاةِ وَنِصَابُ السَّرِقَةِ وَغَيْرِهَا.
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَوْزَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فَمِنْهَا مَا كَانَ الدِّرْهَمُ عِشْرِينَ قِيرَاطًا، وَمِنْهَا مَا كَانَ عَشَرَةَ قَرَارِيطَ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى وَزْنَ خَمْسَةٍ وَمِنْهَا مَا كَانَتْ اثْنَيْ عَشَرَ قِيرَاطًا، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى وَزْنُ سِتَّةٍ فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَجْمَعَ النَّاسَ عَلَى نَقْدٍ وَاحِدٍ فَأَخَذَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ دِرْهَمًا، وَكَانَ الْكُلُّ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ قِيرَاطًا وَأَمَرَ أَنْ يُضْرَبَ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ مُتَسَاوِيَةٌ فَكُلُّ دِرْهَمٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا، وَهُوَ وَزْنُ سَبْعَةٍ الَّتِي جَمَعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهَا النَّاسَ وَبَقِيَ كَذَلِكَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا.
وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ يَتَبَايَعُونَ عَلَى دَرَاهِمَ مَعْرُوفَةِ الْوَزْنِ بَيْنَهُمْ يَنْقُصُ مِنْ وَزْنِ سَبْعَةٍ صُدِّقَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ وَزْنِ سَبْعَةٍ لَمْ يَكُنْ نَصٌّ مِنْ لَفْظِهِ إنَّمَا كَانَ بِالْعُرْفِ الظَّاهِرِ فِي مُعَامَلَةِ النَّاسِ بِهِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَالْأَوْقَاتِ فَيُعْتَبَرُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عُرْفُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ كَمَا فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ سِوَى الْإِقْرَارِ.
وَإِنْ اُدُّعِيَ وَزْنٌ دُونَ الْمُتَعَارَفِ كَمَا فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا إذَا ذَكَرَهُ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ مِنْهَا نَقْدًا بِعَيْنِهِ يَنْصَرِفُ مُطْلَقُ الْإِقْرَارِ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْبَعْضُ غَالِبًا عَلَى الْبَعْضِ يَنْصَرِفُ إقْرَارُهُ إلَى الْأَقَلَّ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ مُتَيَقَّنٌ بِهِ، وَعِنْدَ التَّعَارُضِ لَا يُقْضَى إلَّا بِقَدْرِ الْمُتَيَقَّنِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُقِرَّ بَيَّنَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ مُتَيَقَّنٌ بِهِ، وَعِنْدَ التَّعَارُضِ لَا يُقْضَى إلَّا بِقَدْرِ الْمُتَيَقَّنِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُقِرَّ بَيَّنَ الْأَوَّلَ لَا مَحَالَةَ.
وَهَذَا بَيَانُ التَّفْسِيرِ حِينَ اسْتَوَتْ النُّقُودُ فِي الرَّوَاجِ، وَبَيَانُ التَّفْسِيرِ صَحِيحٌ مَفْصُولًا كَانَ أَوْ مَوْصُولًا كَبَيَانِ الزَّوْجِ فِي كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ.
وَلَوْ قَالَ بِالْكُوفَةِ: عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ بِيضٌ عَدَدًا، ثُمَّ قَالَ: هِيَ تَنْقُصُ دَانِقًا لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ لَفْظِهِ انْصَرَفَ إلَى الْإِقْرَارِ بِوَزْنِ سَبْعَةٍ فَدَعْوَاهُ النُّقْصَانَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ لِبَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ لَا يَصِحُّ إلَّا مَوْصُولًا.
وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إسبهبدية عَدَدًا، ثُمَّ قَالَ عَنَيْتُ هَذِهِ الصِّغَارَ فَعَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَزْنُ سَبْعَةٍ مِنْ الإسبهبدية؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إسبهبدية يَرْجِعُ إلَى بَيَانِ النَّوْعِ كَقَوْلِهِ سُودٌ يَرْجِعُ إلَى بَيَانِ الصِّفَةِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْوَزْنُ والإسبهدية فَارِسِيَّةٌ مُعَرَّبَةٌ مَعْنَاهُ اسبه سالادية.
وَالصِّغَارُ هُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ النَّاسُ مَهْرًا تَكُونُ سِتَّةٌ مِنْهُ بِوَزْنِ دِرْهَمٍ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ نُقْصَانِ الْوَزْنِ مَفْصُولًا عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَلَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ مِنْ السُّودِ الْخِيَارِ، ثُمَّ قَالَ هِيَ وَزْنُ سَبْعَةٍ، وَقَالَ الطَّالِبُ: هِيَ مَثَاقِيلُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ تَسْمِيَةَ الدَّرَاهِمِ بَيَانٌ لِلْوَزْنِ، وَقَوْلُهُ مِنْ السُّودِ بَيَانٌ لِلصِّفَةِ، وَقَوْلُهُ الْخِيَارِ بَيَانُ الْعَرْضِ وَبِهِ لَا يَزْدَادُ الْوَزْنُ، فَإِنْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ زِيَادَةً عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ صَغِيرٌ فَهُوَ عَلَى وَزْنِ سَبْعَةٍ وَوَصْفُهُ بِالصِّغَرِ إمَّا لِلْأَثْقَالِ أَوْ لِصِغَرِ الْحَجْمِ وَبِهِ لَا يُنْتَقَصُ الْوَزْنُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَلَيَّ دِرْهَمٌ كَبِيرٌ.
وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ دَرَاهِمُ فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَأَدْنَى الْجَمْعِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ وَلَا غَايَةَ لِأَقْصَاهُ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْأَدْنَى؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ إيجَابٌ لَا يُقَابِلُهُ الِاسْتِيجَابُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ فِي أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِالْأَقَلِّ مِمَّا يُلْفَظُ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دُرَيْهِمَاتٌ فَهُوَ تَصْغِيرٌ بِجَمْعِ الدَّرَاهِمِ، وَهَذَا التَّصْغِيرُ لَا يَنْقُضُ الْوَزْنَ فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ فُلَيْسٌ أَوْ قُفَيْزٌ أَوْ رُطَيْلٌ فَهُوَ وَقَوْلُهُ فَلْسٌ، وَقَفِيزٌ، وَرِطْلٌ سَوَاءٌ يَنْصَرِفُ ذَلِكَ إلَى التَّمَامِ مِنْ ذَلِكَ وَزْنًا وَكَيْلًا.
وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ مَثَاقِيلَ كَمَا قَالَ وَكَانَ عَلَيْهِ مِائَةُ مِثْقَالٍ عَنْ الدَّرَاهِمِ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى وَزْنٍ هُوَ أَكْثَرُ مِمَّا اقْتَضَاهُ مُطْلَقُ كَلَامِهِ وَلَوْ نَصَّ عَلَى وَزْنٍ هُوَ دُونَهُ قُبِلَ مِنْهُ إذَا كَانَ مَوْصُولًا فَكَذَلِكَ إذَا نَصَّ عَلَى وَزْنٍ هُوَ أَكْثَرُ إلَّا أَنَّ فِي هَذَا لَا يَلْحَقُهُ التُّهْمَةُ فَيَصِحُّ سَوَاءٌ ذَكَرَهُ مَوْصُولًا أَوْ مَفْصُولًا.
وَلَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ رُبْعُ حِنْطَةٍ فَعَلَيْهِ رُبْعُ حِنْطَةٍ بِرُبْعِ الْبَلَدِ الْأَكْبَرِ، وَإِنْ قَالَ: عَنَيْتُ الرُّبْعَ الصَّغِيرَ لَمْ يُصَدَّقْ.
وَالرُّبْعُ اسْمٌ لِمِكْيَالٍ كَالْقَفِيزِ وَالصَّاعِ، وَالْمُتَعَارَفُ فِي الْمُعَامَلَاتِ بِهِ الْأَكْبَرُ فَيَنْصَرِفُ مُطْلَقُ الْإِقْرَارِ إلَيْهِ عَلَى قِيَاسِ مَا بَيَّنَّا فِي الْوَزْنِ.
ثَوْبٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ، فَقَالَ: وَهَبَهُ لِي فُلَانٌ، فَقَالَ: نَعَمْ أَوْ أَجَلْ أَوْ بَلَى أَوْ صَدَقْتَ أَوْ قَالَ ذَلِكَ بِالْفَارِسِيَّةِ فَهُوَ إقْرَارٌ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعِ الْجَوَابِ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَفْهُومِ الْمَعْنَى، وَهُوَ مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِطَابِ يَصِيرُ كَالْمُعَادِ لِلْجَوَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} أَيْ نَعَمْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} أَيْ بَلَى أَنْتَ رَبُّنَا فَهُنَا أَيْضًا يَصِيرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَقْدِ الْهِبَةِ مُعَادًا فِي الْجَوَابِ فَيَثْبُتُ الْعَقْدُ بِإِقْرَارِهِ وَالْقَبْضُ مَوْجُودٌ فَيُجْعَلُ صَادِرًا عَنْ ذَلِكَ الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الثَّوْبُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَلَكِنَّهُ فِي يَدِ الْوَاهِبِ فَادَّعَى الْمَوْهُوبُ لَهُ الْهِبَةَ وَالتَّسْلِيمَ وَجَحَدَ ذَلِكَ الْوَاهِبُ، فَإِنْ شَهِدَ الشُّهُودُ بِمُعَايَنَةِ الْقَبْضِ قُبِلَ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَانَ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ.
وَإِنْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الْوَاهِبِ بِالتَّسْلِيمِ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ أَوَّلًا: لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْهِبَةِ يُقْبَضُ بِحُكْمٍ، وَالْقَبْضُ فِعْلٌ لَا يَصِيرُ مَوْجُودًا بِالْإِقْرَارِ بِهِ كَذِبًا فَإِنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ إذَا كَانَ بَاطِلًا فَبِالْإِخْبَارِ عَنْهُ لَا يَصِيرُ حَقًّا كَقَرِيَّةِ الْمُقِرِّينَ وَجُحُودِ الْمُبْطِلِينَ، فَإِذَا لَمْ يَشْهَدُوا بِهِبَةٍ تَامَّةٍ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ، ثُمَّ رَجَعَ، وَقَالَ: الشَّهَادَةُ مَقْبُولَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَثُبُوتِهِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَالْقَبْضُ وَإِنْ كَانَ فِعْلًا هُوَ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ بِإِقْرَارِهِ كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ بِإِقْرَارِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ.
فَإِنْ أَقَرَّ الْوَاهِبُ بِالْهِبَةِ وَالْقَبْضِ، ثُمَّ أَنْكَرَ التَّسْلِيمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَرَادَ اسْتِحْلَافَ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَمْ يُحَلِّفْهُ الْقَاضِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَيُحَلِّفْهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتِحْسَانًا، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ الْبَائِعُ إذَا أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ، ثُمَّ جَحَدُوا أَرَادَ اسْتِحْلَافَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا، وَهُوَ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ رَاجِعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الْقَبْضِ، وَالْمُنَاقِضُ لَا قَوْلَ لَهُ وَالِاسْتِحْلَافُ يَنْبَنِي عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ، وَاسْتَحْسَنَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَا عُرِفَ مِنْ الْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ أَنَّ الْبَائِعَ يُقِرُّ بِالثَّمَنِ لِلْإِشْهَادِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهُ حَقِيقَةً فَلِلِاحْتِيَاطِ لِحَقِّهِ يَسْتَحْلِفُ الْخَصْمَ إذَا طَلَبَ هُوَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.(بَابٌ مِنْ الْإِقْرَارِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ):

(قَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ رَجُلٌ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَعَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ عِشْرُونَ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ دُرْجٍ: عَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَشَرَةَ فِي الْعَشَرَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْحِسَابِ تَكُونُ مِائَةً فَإِقْرَارُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحِسَابِ).
وَلَنَا أَنْ نَقُولَ: إنَّ حِسَابَ الضَّرْبِ فِي الْمَمْسُوحَاتِ لَا فِي الْمَوْزُونَاتِ مَعَ أَنَّ عَمَلَ الضَّرْبِ فِي تَكْثِيرِ الْآخَرِ لَا فِي زِيَادَةِ الْمَالِ، وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَزْنًا وَإِنْ تَكَثَّرَتْ أَجْزَاؤُهَا لَا تَصِيرُ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ وَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ حَرْفُ فِي بِمَعْنَى حَرْفِ نُونٍ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} أَيْ مَعَ عِبَادِي فَيُحْمَلُ عَلَى هَذَا تَصْحِيحًا لِكَلَامِهِ وَكُنَّا نَقُولُ حَرْفُ فِي لِلظَّرْفِ، وَالدَّرَاهِمُ لَا تَكُونُ ظَرْفًا لِلدَّرَاهِمِ وَجَعْلُهُ بِمَعْنَى مَعَ مَجَازٌ، وَالْمَجَازُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى حَرْفِ مَعَ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى حَرْفِ عَلَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِأُصَلِّبَنكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أَيْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ بَقِيَ الْمُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ فَيَلْزَمُ عَشَرَةٌ بِأَوَّلِ كَلَامِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي آخِرِهِ لَغْوٌ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: وَعَشَرَةُ دَنَانِيرَ إلَّا أَنْ يَقُولَ: عَنَيْتُ هَذِهِ وَهَذِهِ فَحِينَئِذٍ يَعْمَلُ بَيَانُهُ بَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ فِي بِمَعْنَى مَعَ أَوْ بِمَعْنَى وَاوِ الْعَطْفِ، وَفِيهِ تَسْدِيدٌ عَلَيْهِ فَيَصِحُّ بَيَانُهُ.
وَلَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ فِي قَفِيزِ حِنْطَةٍ لَزِمَهُ الدِّرْهَمُ وَالْقَفِيزُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْعَلُ وِعَاءً لِلدِّرْهَمِ عَادَةً فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ حَقِيقَةِ حَرْفِ الظَّرْفِ فِيهِ فَيَلْغُو آخِرُ كَلَامِهِ، وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: عَلَيَّ، وَقَدْ أَقَرَّ بِهِ وَبِالدِّرْهَمِ، وَلَمْ يَعْطِفْ عَلَيْهِ الْقَفِيزَ لِيُعْتَبَرَ كَالْمُقْتَرِنِ بِهِ حُكْمًا فَلِهَذَا لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا الدِّرْهَمُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَلَيَّ قَفِيزُ حِنْطَةٍ فِي دِرْهَمٍ لَزِمَهُ الْقَفِيزُ وَبَطَلَ الدِّرْهَمُ؛ لِأَنَّ الدِّرْهَمَ لَا يَكُونُ ظَرْفًا لِلْقَفِيزِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ فِرْقُ زَيْتٍ فِي عَشَرَةِ مَخَاتِيمَ حِنْطَةٍ لَزِمَهُ الزَّيْتُ وَالْحِنْطَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ لَا تَكُونُ ظَرْفًا لِلزَّيْتِ.
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ عَلَيْهِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فِي ثَوْبٍ يَهُودِيٍّ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ الثَّوْبُ الْيَهُودِيُّ هُوَ الدَّيْنُ وَالْخَمْسَةُ دَرَاهِمَ أَسْلَمَهَا إلَيَّ فِيهِ فَهَذَا بَيَانٌ، وَلَكِنْ فِيهِ يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ أَوَّلِ كَلَامِهِ كَوْنُ الْخَمْسَةِ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَبِمَا ذَكَرَهُ الْآنَ تَبَيَّنَ أَنَّ الثَّوْبَ دَيْنٌ عَلَيْهِ دُونَ الْخَمْسَةِ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَا يَكُونُ دَيْنًا عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ حَالَ قِيَامِ الْعَقْدِ، وَبَيَانُ التَّعْبِيرِ لَا يَصِحُّ مَفْصُولًا إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الطَّالِبُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ صَدَّقَهُ قُلْنَا الْحَقُّ لَا يَدِينُهُمَا فَيَثْبُتُ مَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ، وَإِنْ جَحَدَ كَانَ لِلْمُقِرِّ أَنْ يُحَلِّفَهُ وَلِيُّهُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ عَقْدَ السَّلَمِ وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ، فَإِنْ أَنْكَرَ اُسْتُحْلِفَ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمُقِرُّ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ كَمَا أَقَرَّ بِهِ.
وَلَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ مَعَ دِرْهَمٍ فَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ مَتَى ذُكِرَ الْوَصْفُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ، فَإِنْ أُلْحِقَ بِهِ حَرْفُ الْهَاءِ يَكُونُ الْوَصْفُ مُنْصَرِفًا إلَى الْمَذْكُورِ آخِرًا، وَإِنْ لَمْ يُقْرَنْ بِهِ حَرْفُ الْهَاءِ يَكُونُ نَعْتًا لِلْمَذْكُورِ أَوَّلًا كَالرَّجُلِ يَقُولُ: جَاءَنِي زَيْدٌ قَبْلَ عَمْرٍو وَيَكُونُ قَبْلُ نَعْتًا لِمَجِيءِ زَيْدٍ، وَلَوْ قَالَ: جَاءَنِي زَيْدٌ قَبْلَهُ عَمْرٍو يَكُونُ قَبْلُ نَعْتًا لِمَجِيءِ عَمْرٍو إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ إذَا قَالَ لَهُ: عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مَعَ أَوْ مَعَهُ دِرْهَمٌ فَكَلِمَةُ مَعَ الضَّمُّ وَالْقِرَانُ سَوَاءٌ جُعِلَ نَعْتًا لِلْمَذْكُورِ أَوَّلًا أَوْ آخِرًا وَصَارَ مُقِرًّا بِهِمَا لِضَمِّهِ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ فِي الْإِقْرَارِ.
وَلَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ قَبْلَ دِرْهَمٍ يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ قَبْلَ نَعْتٌ لِلْمَذْكُورِ أَوَّلًا فَكَأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ دِرْهَمٍ آخَرَ يَجِبُ عَلَيَّ، وَلَوْ قَالَ قَبْلَهُ دِرْهَمٌ فَعَلَيْهِ دِرْهَمَانِ لِأَنَّهُ نَعْتٌ لِلْمَذْكُورِ آخِرًا أَيْ قَبْلَهُ دِرْهَمٍ قَدْ وَجَبَ عَلَيَّ.
وَلَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ بَعْدَ دِرْهَمٍ أَوْ بَعْدَهُ دِرْهَمٌ يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ دِرْهَمٍ قَدْ وَجَبَ عَلَيَّ أَوْ بَعْدَهُ دِرْهَمٌ قَدْ وَجَبَ لَا يُفْهَمُ مِنْ الْكَلَامِ إلَّا هَذَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ سَمَّى أَحَدَهُمَا دِينَارًا أَوْ قَفِيزَ حِنْطَةٍ، وَفِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ دِرْهَمٌ الْإِقْرَارُ مُخَالِفٌ لِلطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الطَّلَاقِ هُنَاكَ لَا يَقَعُ وَالدِّرْهَمُ بَعْدَ الدِّرْهَمِ يَجِبُ دَيْنًا.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ وَمُوجَبُ الْعَطْفِ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْخَبَرِ فَصَارَ مُقِرًّا بِهِمَا.
وَلَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَلْزَمُهُ إلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لَيْسَتْ لِلْعَطْفِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الِاشْتِرَاكُ بَلْ مَعْنَى قَوْلِهِ فَدِرْهَمٌ أَيْ فَعَلَيَّ ذَلِكَ الدِّرْهَمُ وَكُنَّا نَقُولُ الْفَاءُ لِلْوَصْلِ وَالتَّعْقِيبِ، فَقَدْ جُعِلَ الثَّانِي مَوْصُولًا بِالْأَوَّلِ وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْوَصْلُ إلَّا بِوُجُوبِهِمَا، وَكَانَ هَذَا الْوَصْلُ فِي مَعْنَى الْعَطْفِ.
وَكَذَلِكَ التَّعْقِيبُ يَتَحَقَّقُ فِي الْوُجُوبِ بَيْنَهُمَا إنْ كَانَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْوَاجِبِ فَكَانَ مَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ وُجُوبَ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ فِي هَذَا عَمَلٌ بِحَقِيقَةِ كَلَامِهِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْإِضْمَارِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخَصْمُ؛ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ فِي الْكَلَامِ لِلْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ هُنَا.
وَلَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ دِرْهَمٌ لَزِمَهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ كَرَّرَ لَفْظَهُ الْأَوَّلِ وَالتَّكْرَارُ لَا يُوجِبُ الْمُغَايَرَةَ إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْهَا حَرْفُ الْعَطْفِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَخَلَّلْهَا حَرْفُ الْوَاوِ فَإِنَّ الْمَعْطُوفَ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ بِدِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ يَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ فَكَانَ مَعْنَى كَلَامِهِ بِدِرْهَمٍ اسْتَقْرَضْتُهُ أَوْ بِدِرْهَمٍ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ.
وَلَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ عَلَيَّ دِرْهَمٍ لَزِمَهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَيَّ دِرْهَمٌ عَلَيَّ دِرْهَمٌ، وَالْأَصَحُّ مَا قُلْنَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَيَّ دِرْهَمٌ عَلَيَّ دِرْهَمٌ، وَقَدْ أَعَادَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ قَوْلَهُ لَهُ فِي الْكَلَامِ الثَّانِي، فَقَالَ لَهُ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ، وَبِهَذَا تَرْتَفِعُ الشُّبْهَةُ وَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ كَرَّرَ كَلَامَهُ الْأَوَّلِ وَبِالتَّكْرَارِ لَا يَزْدَادُ الْوَاجِبُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ وَالْخَبَرُ يُكَرَّرُ وَيَكُونُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}.
وَلَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ، ثُمَّ دِرْهَمَانِ لَزِمَهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ لِلتَّعْقِيبِ مَعَ التَّرَاخِي، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّعْقِيبَ فِي الْوُجُوبِ بَيْنَ الْمَذْكُورَيْنِ يَتَحَقَّقُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْوَاجِبِ فَصَارَ مُقِرًّا بِهِمَا عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الدِّرْهَمَيْنِ عَلَيْهِ كَانَ بَعْدَ وُجُوبِ الدِّرْهَمِ فَيَلْزَمُهُ ثَلَاثَةٌ.
وَلَوْ قَالَ: مِائَةُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ مِائَتَانِ فِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِهِ قَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ كَلِمَةَ لَا بَلْ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْأَوَّلِ وَإِقَامَةِ الثَّانِي مَقَامَ الْأَوَّلِ فَرُجُوعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْمِائَةِ بَاطِلٌ، وَإِقْرَارُهُ بِالْمِائَتَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْإِقَامَةِ مَقَامَ الْأَوَّلِ صَحِيحٌ فَيَلْزَمُهُ الْمَالَانِ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ مِائَةُ دِينَارٍ، أَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا بَلْ اثْنَيْنِ يَقَعُ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ وَالْغَلَطُ يَتَمَكَّنُ فِي الْخَبَرِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِذِكْرِ الْمَالِ الثَّانِي اسْتِدْرَاكُ الْغَلَطِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمَالِ الْأَوَّلِ لَا ضَمُّ الثَّانِي إلَى الْأَوَّلِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ سِنِّي خَمْسُونَ لَا بَلْ سِتُّونَ كَانَ إخْبَارَ السِّتِّينَ فَقَطْ، وَيَقُولُ: حَجَجْتُ حَجَّةً لَا بَلْ حَجَّتَيْنِ كَانَ إخْبَارًا بِحَجَّتَيْنِ فَقَطْ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَالَيْنِ؛ لِأَنَّ الْغَلَطَ فِي مِثْلِ هَذَا يَقَعُ فِي الْقَدْرِ عَادَةً لَا فِي الْجِنْسِ، وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُ أَعَادَ الْقَدْرَ الْأَوَّلَ فَزَادَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ أَوَّلًا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي كَلَامِهِ الثَّانِي بِخِلَافِ مَا إذَا اتَّفَقَ الْجِنْسُ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَقُولُ: حَجَجْتُ حَجَّةً لَا بَلْ عُمْرَتَيْنِ وَيَقُولُ: حَجَجْتُ حَجَّةً لَا بَلْ حَجَّتَيْنِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ فَهُوَ إيقَاعٌ وَإِنْشَاءَاتٌ، وَفِي الْإِنْشَاءَاتِ لَا يَقَعُ الْغَلَطُ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الثَّانِي عَلَى الِاسْتِدْرَاكِ حَتَّى لَوْ خَرَجَ الْكَلَامُ هُنَا مَخْرَجَ الْإِخْبَارِ، وَقَالَ: كُنْتُ طَلَّقْتُهَا أَمْسِ وَاحِدَةً لَا بَلْ اثْنَتَيْنِ كَانَ إقْرَارًا بِاثْنَتَيْنِ اسْتِحْسَانًا كَمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ مِائَتَانِ لَا بَلْ مِائَةٌ فَعَلَيْهِ أَزْيَدُ الْمَالَيْنِ، وَهُوَ الْمِائَتَانِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ اسْتِدْرَاكَ الْغَلَطِ بِالرُّجُوعِ عَنْ بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ أَوَّلًا فَلَمْ يَعْمَلْ، وَفِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ الْمَالَانِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ مِائَةٌ جِيَادٌ لَا بَلْ زُيُوفٌ، أَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ مِائَةٌ زُيُوفٌ لَا بَلْ جِيَادٌ فِي جَوَابِ الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ أَفْضَلُ الْمَالَيْنِ فَقَطْ، وَفِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ الْمَالَانِ لِأَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ وَالتَّفَاوُتُ فِي الْجِنْسِ بِمَنْزِلَةِ التَّفَاوُتِ فِي الْعَدَدِ.
وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي مَوْطِنٍ وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ، ثُمَّ أَقَرَّ لَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي مَوْطِنٍ آخَرَ وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ آخَرَيْنِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَالَانِ جَمِيعًا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا مَالٌ وَاحِدٌ، وَذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ، وَهُوَ مِمَّا يَتَكَرَّرُ وَيَكُونُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ فَلَا يَلْزَمُهُ بِالتَّكْرَارِ مَالٌ آخَرُ بَلْ قَصْدُهُ مِنْ هَذَا التَّكْرَارِ أَنْ يُؤَكِّدَ حَقَّهُ بِالزِّيَادَةِ فِي الشُّهُودِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِقْرَارَيْنِ لَوْ كَانَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَشْهَدَ عَلَى كُلِّ إقْرَارٍ شَاهِدًا وَاحِدًا أَوْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْإِقْرَارَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا مَالٌ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ صَكًّا عَلَى الشُّهُودِ وَأَقَرَّ بِهِ عِنْدَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَوْ أَقَرَّ بِالْمِائَةِ وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ، ثُمَّ قَدَّمَهُ إلَى الْقَاضِي فَأَقَرَّ بِهِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا مَالٌ وَاحِدٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ ذِكْرُ الْمِائَةِ فِي كَلَامِهِ مُنَكَّرٌ، وَالْمُنَكَّرُ إذَا أُعِيدَ مُنَكَّرًا كَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} فَإِنَّ الثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنَ فَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَتَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَكًّا عَلَى حِدَةٍ وَأَشْهَدَ عَلَى كُلِّ صَكٍّ شَاهِدَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ كَلَامَ الْعَاقِلِ مَهْمَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الْإِفَادَةِ لَا يَحْمِلُ التَّكْرَارَ وَالْإِعَادَةَ فَإِذَا صَارَ الْمَالُ الْأَوَّلُ مُسْتَحْكِمًا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ فَلَوْ حَمَلْنَا إقْرَارَهُ الثَّانِي عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ كَانَ تَكْرَارًا غَيْرَ مُفِيدٍ وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَالٍ آخَرَ كَانَ مُفِيدًا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَشْهَدَ عَلَى كُلِّ إقْرَارٍ شَاهِدًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ الْمَالُ لَا يَصِيرُ مُسْتَحْكِمًا فَفَائِدَةُ إعَادَتِهِ اسْتِحْكَامُ الْمَالِ بِإِتْمَامِ الْحُجَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِهِ ثَانِيًا بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْإِعَادَةِ إسْقَاطُ مُؤْنَةِ الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ عَنْ الْمُدَّعِي مَعَ أَنَّ الْمُدَّعِي ادَّعَى تِلْكَ الْمِائَةَ فَأَعَادَهُ مُعَرَّفًا لَا مُنَكَّرًا وَالْمُنَكَّرُ إذَا أُعِيدَ مُعَرَّفًا كَانَ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَرَادَ الصَّكَّ عَلَى الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ هُنَا كَانَ مُعَرَّفًا بِالْمَالِ الثَّابِتِ فِي الصَّكِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُنَكَّرَ إذَا أُعِيدَ مُعَرَّفًا كَانَ الثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْإِقْرَارُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فِي الْقِيَاسِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَلْزَمُهُ مَالَانِ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ، فَقَالَ: لِلْمَجْلِسِ أَنْ يَتَبَصَّرَ فِي جَمِيعِ الْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ وَجَعَلَهَا فِي حُكْمِ كَلَامٍ وَاحِدٍ (أَلَا تَرَى) الْأَقَارِيرَ فِي الزِّنَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ أَقَرَّ بِمِائَةٍ فِي مَجْلِسٍ وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ، ثُمَّ ثَمَانِينَ وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ أَوْ بِمِائَتَيْنِ، ثُمَّ بِمِائَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَالَانِ وَعِنْدَهُمَا يَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَالَيْنِ فَقَطْ.
وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ بِضَاعَةً قَرْضًا فَهَذَا دَيْنٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُرْبِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْقُرْبَ مِنْ يَدِهِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِالْأَمَانَةِ وَمِنْ ذِمَّتِهِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ بَقِيَ لَفْظَانِ أَحَدُهُمَا لِلْأَمَانَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ بِضَاعَةٌ وَالْآخَرُ لِلدَّيْنِ خَاصَّةً، وَهُوَ الْقَرْضُ وَمَتَى جُمِعَ بَيْنَ لَفْظَيْنِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُ الْأَمَانَةَ وَالْآخَرُ الدَّيْنَ يَتَرَجَّحُ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّ صَيْرُورَتَهُ دَيْنًا يَعْتَرِضُ عَلَى كَوْنِهِ أَمَانَةً فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا اسْتَهْلَكَ أَوْ خَالَفَ وَاسْتَقْرَضَ صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ وَالْأَمَانَةُ لَا تُطْرِي عَلَى الدَّيْنِ فَإِنَّ مَا كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَا يَصِيرُ أَمَانَةً عِنْدَهُ بِحَالٍ، فَإِذَا اجْتَمَعَا يُرَدُّ عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِنْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ مِائَةٌ دِرْهَمٍ فَهَذَا إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَيَّ خَاصَّةٌ لِلْإِخْبَارِ وَاسْتِحْقَاقِهِ مِنْ، وَإِنَّمَا يَعْلُوهُ إذَا كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ قَضَائِهِ لِيَخْرُجَ عَنْهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَبْلُ فَهُوَ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِبَارَةٌ عَنْ اللُّزُومِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الصَّكَّ الَّذِي هُوَ حُجَّةُ الدَّيْنِ يُسَمَّى مَالًا وَأَنَّ الْكَفِيلَ يُسَمَّى بِهِ قَبِيلًا لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ، وَإِنْ قَالَ: عِنْدِي فَهَذَا إقْرَارٌ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُحْتَمَلًا كَمَا بَيَّنَّا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْأَقَلُّ، وَهُوَ الْوَدِيعَةُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَعِي أَوْ فِي يَدِي أَوْ فِي بَيْتِي أَوْ كِيسِي أَوْ صُنْدُوقِي فَهَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ إنَّمَا تَكُونُ مُحْتَمَلًا لِلْعَيْنِ لَا لِلدَّيْنِ فَإِنَّ الدَّيْنَ مَحِلُّهُ الذِّمَّةُ.
وَلَوْ قَالَ لَهُ فِي مَالِي مِائَةُ دِرْهَمٍ فَهَذَا إقْرَارٌ لَهُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ إقْرَارٌ بِمَا أَدَّى، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ إنْ كَانَ مَالُهُ مَحْصُورًا فَهُوَ إقْرَارٌ لَهُ بِالشَّرِكَةِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالُهُ مَحْصُورًا فَهُوَ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَالَهُ ظَرْفًا لِمَا أَقَرَّ بِهِ، فَقَدْ خَلَطَهُ بِمَالٍ كَانَ مُسْتَهْلِكًا لَهُ فَكَانَ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَخْلِطْهُ فَقَوْلُهُ فِي مَالِي بَيَانُ أَنَّ مَحَلَّ قَضَاءِ مَا أَقَرَّ بِهِ مَالُهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ مَالُهُ مَحِلًّا لِقَضَاءِ مَا هُوَ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ عَلَى كُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ كَانَ مَالُهُ مَحْصُورًا أَوْ غَيْرَ مَحْصُورٍ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْمُشْتَرَكَ لَا يُضَافُ إلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ خَاصَّةً فَلَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ فِي مَالِي إلَّا عَلَى بَيَانِ مَحَلِّ الْقَضَاءِ.
وَلَوْ قَالَ لَهُ مِنْ مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْ مِنْ دَرَاهِمِي هَذِهِ دِرْهَمٌ فَهَذِهِ هِبَةٌ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ وَالدَّفْعِ إلَيْهِ لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ فَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُ بَعْضَ مَالِهِ كَلَامُهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِإِنْشَاءِ الْهِبَةِ وَلَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ وَالْقِسْمَةِ.
وَإِنْ قَالَ مِنْ مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا حَقَّ لِي فِيهَا فَهَذَا إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ تَأْخِيرُ كَلَامِهِ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ أَوَّلِهِ لَيْسَ الْهِبَةَ فَأَخْبَرَ بِانْتِهَاءِ حَقِّهِ عَنْهُ وَلَا يَنْتَفِي حَقُّهُ عَنْ الْمَوْهُوبِ مَا لَمْ يُسَلِّمْ فَعَرَفْنَا بِآخِرِ كَلَامِهِ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ أَوَّلِهِ الْإِقْرَارُ وَأَنَّ مِنْ لِلتَّمَيُّزِ لَا لِلتَّبْعِيضِ فَجَعَلَ ذَلِكَ الْقَدْرَ مُمَيَّزًا مِنْ مَالِهِ بِإِقْرَارِهِ لِفُلَانٍ لَا حَقَّ لِي فِيهِ.
وَإِنْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةٌ قَرْضٌ أَوْ مُضَارَبَةُ قَرْضٍ فَهُوَ قَرْضٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَدِيعَةَ وَالْمُضَارَبَةَ قَدْ تَنْقَلِبُ قَرْضًا، فَأَمَّا الْقَرْضُ لَا يَنْقَلِبُ وَدِيعَةً وَلَا مُضَارَبَةً.
وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَوْ قِبَلِي أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةٌ فَهِيَ وَدِيعَةٌ؛ لِأَنَّ آخِرَ كَلَامِهِ تَفْسِيرٌ لِلْأَوَّلِ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِمَا فَسَّرَهُ فَإِنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ أَيْ حِفْظُهَا لَا عَيْنُهَا؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ مُلْتَزِمٌ حِفْظَ الْوَدِيعَةِ وَمَتَى فُسِّرَ كَلَامُهُ بِمَا يَحْتَمِلُ كَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ، وَإِنْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عِنْدِي مُحْتَمَلٌ، وَقَدْ فَسَّرَهُ بِأَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ فَكَانَ.
وَإِنْ قَالَ: قِبَلِي لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ وَدِيعَةٌ أَوْ وَدِيعَةٌ دَيْنٌ فَهُوَ دَيْنٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ إذَا كَانَ لِلْأَمَانَةِ وَالْآخَرِ لِلدَّيْنِ، فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِقْرَارِ يَتَرَجَّحُ الدَّيْنُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.